
فالفضاء العمومي يتشكل ويظهر في جملة من المؤسسات المختلفة التي تعمل من أجل الدفاع والمطالبة بحقوق ورغبات وحاجيات الفئات الاجتماعية المكونة للمجتمع باختلاف دياناتها وطبقاتها، ويحاول أن يحل مشاكلهم ويقدم خدمات للصالح العام، فبواسطته تسير الشؤون العامة للأفراد عن طريق تنوير طرق النظام السياسي في كيفية ومتى ولماذا ولصالح من تتخذ القرارت.
نتج عن النمط السلطوي المتبع في العديد من النظم السياسية العربية العديد من المظاهر السلبية مثل انسداد الأفق السياسي، وتعثر المسار الديمقراطي وازدياد الشعور بالإحباط واليأس وفقدان الثقة، مما دفع بكل المهتمين والمتتبعين للشأن العام إلى المشاركة في الحياة العامة من خلال قنوات بديلة، وفي مقدمتها الحركات الدينية والرقية، والجهوية التي تحولت إلى أهم فاعل سياسي في مواجهة ذلك.
وشأنه شأن كل الأفعال الإنسانية، تتغير وتتطور طرائق ووسائل التواصل والتبادل بين المواطنين بتغير الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وهذا ما توضحه التجارب الإنسانية الحالية، حيث يجري الحديث عن فضاء عمومي في لبوس مغاير لذلك الفضاء التقليدي المحدد بالمكان في غالب الأحيان، حيث يتبادر للذهن دوما الحديث عن المسارح ودور السينما والملاعب والمتاحف والمدارس والحدائق.
..) توسع المجال العمومي لأنها تتيح فضاءات جديدة للنخب البديلة، كما تعزز المشاركة في الحياة السياسية عبر أدوات جديدة، لذا فهي تساهم في تأسيس الديمقراطية التداولية.
يحتل مفهوم المواطنة مكانة مهمة في العلوم السياسية لاقترانه الوثيق بقضايا حيوية عديدة من قبيل الدولة، الفضاء العمومي، والديمقراطية والقانون والهوية الفردية وحقوق الأقليات. الأمر الذي جعله غير مستقرا وفي تغير دائم، فبمجرد ما يتم الاتفاق والتوافق على تعريف للمواطنة، حتى تظهر في الحياة السياسية والاقتصادية تغيرات تمتد آثارها إلى المفاهيم القريبة منه وتنعكس عليه، الأمر الذي يتطلب معالجة ومراجعته وفق ما يتناسب مع التغيرات الجديدة في الساحة السياسية، ولعل أبرز ما طال الإنسان المعاصر من انقلاب في نظام كينونته وشرط وجوده في العالم، هو التقدم العلمي والثورة التقنية، فأصبحنا نتحدث عن فضاء فوق موضعي عوض فضاء عمومي موضعي، ومواطنة عالمية وعابرة للحدود القومية.
في المقابل، تبرز الأطروحة الثانية ظهور دوامة الصمت في سياق الفضاء الافتراضي، بفعل عوامل سياسية واجتماعية ونفسية وسلوكية، تقيد حرية الفرد في التعبير عن رأيه، حيث يتم تفعيل الرقابة الذاتية وتقييم مناخ الرأي العام عبر الشبكة خوفًا من العزلة الاجتماعية.
كما استعرضت الدراسة مجموعة من السمات المتعلقة بالتواصل الشبكي، التي تحفز الفرد في التعبير عن رأيه، وتضعف من دوامة الصمت، وقد تمثلت في إنشاء أو الانضمام إلى مجموعات افتراضية متوافقة، وعدم الكشف عن الهوية، وغياب الحضور المادي والاتصال الإمارات المباشر.
والخلاصة أن المساواة الكلية والمطلقة هي في النهاية الغاية التي تختبئ وراءها كل التفاصيل المتعلقة بمجموع هذه المطالب.
تكوين رأي عام مدرك لأفعاله وسلوكاته تجاه القضايا المطروحة على الساحة السياسية، وهو رأي ذو سلطة ذات تأثير على سياسة وخطاب النظام الحاكم.
تعد هذه الدراسة ميدانا للبحث في الخلفية الفكرية والتنظيرية للفضاء العمومي وفق الطرح الهابرماسي، وعلاقته بالممارسة الديمقراطية والبناء السياسي للمجتمع خاصة في ظل الديمقراطية الالكترونية الحديثة، وذلك بالبحث في تطورات الفضاء العمومي وفق مراحل التحولات الاجتماعية من المجتمع الإقطاعي إلى المجتمع الجماهيري الصناعي فالمجتمع الشبكي الرقمي أي بدراسة تطور الفضاء العمومي من الطرح البورجوازي إلى المجال الافتراضي مرورا بالاتصال الجماهيري، كما وتهدف الدراسة أيضا لبحث تجليات الفضاء العمومي ومكوناته في العالم العربي وواقع النشاط الإعلامي والديمقراطية في أوساطه، ومن ثمة الوقوف على أوجه التشابه والاختلاف بين تشكل الفضاء العمومي في المجتمعات الغربية والعربية ومعرفة خصوصية كل واحد منهما.
أولا- الفضاء العمومي وثنائية الواقعي والافتراضي: دلالات والتباسات
تسعى هذه الورقة البحثية للوقوف على مفهوم الفضاء العمومي الذي يعرف اهتماما خاصا في أبحاث المفكر الألماني يورغن هابرماس إذ يعتبره أساس اكتمال مشروع المجتمع الحديث، ويعول هابرماس وأنصاره لتجاوز الاختلال في المجتمعات والأنظمة السياسية على المجال العمومي الديمقراطي القادر على خلق نقاش عام بين أفراد المجتمع، ومن ثمة صناعة رأي عام يخدم المصلحة العامة، كما وتهدف أيضا لدراسة علاقة هذا الفضاء بالإعلام ووسائله المختلفة وتشخيص واقعه في العالم العربي من خلال الحياة السياسية والممارسة الديمقراطية بشكل خاص.
ترتكز نظرية دوامة الصمت على مجموعة من الافتراضات، تتمثل في الآتي:
وقد حظيت نظرية دوامة الصمت باهتمام متجدد في ظل اتجاه الأفراد نحو وسائل الإعلام الجديدة، وبرز تشكيك الباحثين في إمكانية تطبيق دوامة الصمت في الفضاء الافتراضي، مع وجود اعتقاد بأن النظرية لم يعد لها حضور في بيئة الإعلام الجديد، وغير قابلة للتطبيق على أنشطة الاتصال في الفضاء الرقمي.
تكمن قوة الفكر السياسي الراهن في سلطة أحقية تدبيره للاستشكالات والمقولات المركزية للتداول المعاصر، كما هو الأمر الفضاء الافتراضي في تدبير أسئلة المواطنة بما تتيحه من ممكنات الترابط والجوار مع جوهر القول السياسي في الدولة، الفضاء العمومي، الديمقراطية، القانون، الهوية، المعنى، ومعها باقي المطالب الملحة المعنية بتحدي مجاراة أسئلة الاعتراف والتعددية وحق الاختلاف، حين يجري الحديث مثلا عن مواطنة من درجة أولى وأخرى من درجة ثانية، ومعه أيضا إلحاحية تدبير هذا التعالق المفاهيمي وتشويشاته النظرية حين يجري التعامل مع "المواطنة" في سياقات أشمل تتلون دوما بأسئلة ومآزق ومستجدات الإنسان المعاصر وما يمسه جراء انقلابات نظام كينونته وشروط وجوده، المحكوم بواقعية التقدم العلمي والثورة التقنية، حتى أضحت المواطنة مجبرة على تطويع بنيتها التقليدية استجابة لشرط تشكل ما يجري تسميته بالمواطنة الفسيحة والسائلة، والمُنسكبة بوضوح ضمن "الفضاء العام فوق موضعي" باعتبارها مواطنة كونية ميزتها تجاوز الانعزالات الوطنية والقومية.